كم كانت الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية، والقنوات الفضائية، مستفزّة للمشاعر، صادمة للنفوس، مخيّبة للظنون، معبّرة عن حيوانية كامنة في النّفوس، نفوس أولئك الجنود الأمريكيين بكامل بزّاتهم العسكرية، وهم يتبوّلون على جثث بعض قتلى طالبان
ولقد حاولت الإدارة الأمريكية أن تخفف من هول الصدمة وهول الواقعة، عن طريق وزير دفاعها، ووزيرة خارجيتها بالقول بأنّ هذا تصرف معزول لا يعبر عن أخلاقيات الجيش الأمريكي، واحترامه لثقافات الأمم الأخرى ودياناتها. وأنهما يدينان هذا التصرف الأرعن الذي أساء إلى أمريكا وحضارتها.
وبناء إلى القول، بأنّنا كنّا نصدق هذا الكلام، ونقبل هذا الاعتذار، لو كان هذا التّصرف المشين غير مسبوق بجملة من التصرفات التي لا تقلّ عنه فظاعة ولا شناعة، وأقربها إلى الاستذكار، تصرف الإدارة الأمريكية مع جثة (أسامة بن لادن) زعيم القاعدة والعدوّ الأوّل أو الأكبر لأمريكا، كما يصوّره إعلامها الرسمي، وأدبياتها السياسية
ولست هنا في معرض تقويم فكر القاعدة وموقفها من الغرب والحكم له أو عليه إسلاميًا، فهذا مجال آخر، وإنّما نحن بصدد تقويم موقف رسمي صادر من أعلى المسئولين في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو القرار الذي اتخذ ضدّ أسامة بن لادن –رحمه الله- وهو ميّت، بإلقاء جثته في البحر، وعدم السّماح بدفنه كما تنّص على ذلك أحكام الشريعة الإسلامية. فماذا عساها تقول وزيرة الخارجية الأمريكية هذه المرّة، أهذا تصرف أعزل، والقائمون به طائشون لا يمثلون أمريكا وحضارتها التنويرية
أيكفي هذا المثال لتصّح القاعدة ويصبح غيره استثناء وشذوذا يحفظ ولا يقاس عليه، أم أننا مضطرون لسلوك منهج الاستقراء، القائم على التتبّع والإحصاء، وعندها نضطر لتذكير الوزيرة بملفات (غوانتنامو) المروّعة، وملّفات سجن أبي غريب المفزعة، والقائمة طويلة مليئة ومرتعة
إنّ دهاقنة الاستعمار الجديد، ومنظري العولمة التي هي إخراج جديد للاستعمار القديم، يقولون بأنّ أعظم ما ابتكرته الحضارة الغربية هي فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، يقولون هذا الكلام ويسوقونه كمبرر على وجوب أن تسود هذه الحضارة ومنجزاتها على العالم كلّه. ونحن نقول بأنّ أعظم شيء في هذه الحضارة هو أسوأ شيء فيها، ذلك أنّ فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان ولا شك هي من أرقى ما توّصل إليه الفكر البشري إلى اليوم ولا نجاري المفكر فوكوياما في القول بنهاية التاريخ، ولكن ويا للأسف الشديد من هذا الإنسان الذي تحفظ كرامته وتصان حقوقه؟ ويجب أن تخضع كلّ القوانين، وجميع السياسات لهذا المبدأ النبيل ألا وهو حقوق الإنسان؟
إنّه الإنسان الغربي وفقط، أمّا إذا كان الإنسان غير غربي فإنّ هذه المفاهيم تتعطّل، ونشرع في التعامل مع منظومة أخرى من القيّم والمفاهيم، وإنّ الإنسانية لا تزال تتطلّع إلى يوم تسود فيه الديمقراطية وحقوق الإنسانية في العلاقات الدولية، وتسود الديمقراطية هيئة الأمم المتحدة، فتتحرّر من مجلس الأمن المخيف ذي القرارات التي لا يثق فيها إلاّ ذو العقل السخيف على حدّ تعبير أمامنا محمد البشير الإبراهيمي
إنّ تكريم الإنسان أمر قرّره القرآن الكريم حين قال:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} فالآدمية هي مناط التكريم، وهي صفة لازمة للإنسان مهما كان لونه ولغته أو ثقافته أو دينه، أو دولته أو حضارته
ولقد جسّد هذا الاحترام للإنسان والتكريم للآدمية سلوك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين مرّت أمامه جنازة، فقام -صلى الله عليه وسلم- احترامًا، وقام الصحابة الكرام لقيامه، ثم قالوا له: "يا رسول الله إنّها جنازة يهودي"، فقال: "أليست نفسًا
وقال المحققون من أهل العلم: "وظاهر أحاديث الباب أنّه يشرع القيام لجنازة المسلم والكافر
إنّ العولمة التي هي حلم الفلاسفة في مدينتهم الفاضلة، وخيال الأدباء في مثاليتهم المجردّة، لا تحققها إلاّ تعاليم الوحي السماوي، وتوجيهاته السامية وأحكامه الخالدة التي تضع الناس جميعا في مستوًى واحد، وتعاملهم على أساس من المساواة المطلقة، ولا تفاضل بينهم إلاّ بمقدار ما يقدّمون من خدمات لبني الإنسان، ويومها تصبح الثقافات، واللّغات، والتّفوّق العلمي مجرد أدوات لخدمة الإنسانية، وصدق الرسول الكريم القائل: "الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله، أنفعهم لعياله". والسلام عليكم
المصدر: البصائر أورق
أحدث أقدم