اعتمد (هولاكوخان) زعيم التتار على مرفقيه في ضيق وهو يستمع إلى امرأته (دوقوز خاتون) التي آلت إليه بعد موت أبيه الخان الأعظم تولوي
           فلنترك ما هو أدنى وقد ملكت الدنيا إلى ما هو أعز وأغلى. إن نائبك (كتبغا) يستطيع أن يهلك أرض مصر كلها ويستكمل حملتك في أقصى الغرب. فالآن ليس هناك إلا أن نعود إلى (قراقورم) عاصمة الخاقانية بعد أن طمع فيها أقاربك وإخوتك الحاسدون

         : هزّ هولاكو رأسه في أسف وهو يقول

          الحق معك يا خاتون. لقد جاءت الرسل معلنين أن بركاي أخي الأكبر قد أجلس نفسه على عرش الخاقانية, وأن أخي (أريق بوكا) دخل في طاعته, وأن ألفو قد مات بعد أن اصطدم بأخويه. وأصدر قوبلاي خان بعد أن وزعوا التركة أمراً يقضي بإقراري ملكاً على بلاد ما بين ضفاف جبجون حتى ديار مصر والشام. وإذا كنت أحترم قرار أخي الأكبر بركاي باعتباره كبير الأسرة برغم تحكّمه, فإنه لا يراعي الحياء والخجل ويخاطبني بعنف وتهديد

         : قالت الخاتون دوقوز

           ومع ذلك, فقد فوّضت الحكم في ممالك العراق وخراسان ومازن ران بعد أن فتحتها إلى نجلك الأكبر (أباقاخان) وأسندت إيران وأذربيجان إلى الأمير تودان بما في ذلك ديار بكر, وأعطيت بروانة ممالك الروم, وتركان خاتون على كرمان والأمير انكيانو على فارس

         : أجاب هولاكو وهو مستلق في خيمته يفكر وهو يبدي أسفه بسبب حقد أقاربه الحاسدين

        ولكن مازالت هناك مصر التي أريد أن أغزوها وأضمّها إلى كل ما استولينا عليه من أرض المسلمين, ومع ذلك, فسأدع كتبغا قائد جيوش التتار لينقض على مصر وهو منتصر لا محالة. وسأعود إلى قراتورم قبل أن تضيع الخاقانية في أيدي الأقارب والإخوة الأعداء

رسالة إلى قطز

كانت مصر في ذلك تعيش على فوهة بركان بعد أن وصلت الأخبار بسقوط مقر الخلافة في بغداد وانهيار كل الممالك إلى أن بلغ هولاكو الشام وفعل الأفاعيل بكل ما مرّ به من البلاد حتى وصل إلى حلب فملكها عام 1260 وأعمل في أهلها سفكاً ونهبا. وكان السلطان المملوكي الذي جلس على عرش مصر المظفر سيف الدين قطز قد استقبل من هولاكو قبل أن يترك جيوشه تحت قيادة كتبغا رسولاً يحمل رسالة شديدة اللهجة يقول فيها

          يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال, أننا نحن جند الله في أرضه, خلقنا من سخطه, وسلطنا على من حل ّ به غضبه, فإذا لم تستسلم فتذكر ما فعلناه ببغداد وأهلها, وهو أقل ما فعلناه بالملك الصالح في الموصل حين تعمّد إغضابنا, فأمرنا بأن يدخلوا جسمه في دهن الخراف (اللية) ويربطوا عليه باللبد والحبال بإحكام ويلقوا به في شمس الصيف القائظ فاستحالت اللية بعد اسبوع إلى ديدان أخذت تلتهم جسده حتى فاضت روحه بعد شهر. ثم بعثنا بولده وهو في الثالثة من عمره إلى الموصل ليشقوا جسده إلى نصفين على ساحل دجلة, وعلى سبيل الاعتبار علّقوا جثته على الجانبين حتى تعفّنت وتناثرت

          :قال ركن الدين بيبرس الذي كان قد عاد من الشام وانضم إلى قطز وامرائه وعيّن أتابكا للعسكر

           قد شهدت ذلك بنفسي فهولاكو مجرم مقيت لا يتورع عن شيء. وكفانا هذا التهديد السفيه فلن نسكت عليه أبداً

          :قال قطز وهو يستكمل رسالة هولاكو

  إن لكم بجميع البلاد معتبر وعن عزمنا مزدجر, فاتعظوا بغيركم وأسلموا إلينا أمركم, فنحن لا نرحم مَن بكى, ولا نرق لمن شكا, فعليكم بالهرب وعلينا الطلب, فما لكم من سيوفنا خلاص, ولا من مهابتنا مناص, سيوفنا صواعق, وعددنا كالرمال, فالحصون لدينا لا تمنع, والعساكر لقتالنا لا تنفع, ودعاؤكم علينا لا يُسمع, فقد أنصفناكم إذ راسلناكم, وأيقظناكم إذ حذّرناكم

مصر لا تستسلم

 : جمع قطز أمراءه واستشارهم وناقش معهم الموقف, وانتهى الأمر بأن قال لهم

           إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعاً إلى القتال, فإذا ظفرنا فهو المراد, وإلا فلن نكون مسلمين أمام الخلق

          وردّ قطز على هولاكو بصلب رسل التتار

           وزحف جيش مصر إلى العريش ثم بلغ حدود فلسطين قبل أن يجمع التتار قواتهم, وكان معظمها يعسكر في سهل البقاع بين جبال لبنان ودمشق بقيادة قائدهم الكبير كتبغا

          تقدم بيبرس أتابك العسكر مجنّباً التلال, سائراً على طريق الساحل بين يافا وقيعرية إلى أن وصلت جيوشه جنوبي حيفا وعسكرت بالقرب من شرق عكا

         وفي عين جالوت التي تقع بوادي جالوت إلى الغرب من بحيرة طبرية المطلة على وادي الأردن, التقى جيشا مصر والتتار في يوم الجمعة الثالث من سبتمبر 1260

          أقبل كتبغا معتمداً على قوته وضخامة جيشه, وكان قطز قد عبأ الجيش المصري في كمين, بعدما أعدّه خير إعداد. ثم امتطى جواده وثبت مع نفر قليل من شجعانه, وقابل كتبغا مع آلاف عدة من الفرسان, فقذف التتار سهامهم وحملوا على المصريين, فتراجع قطز حسب خطته الموضوعة وأظهر أن جنوده قد لحقت بهم الهزيمة. وهنا تشجّع التتار وتعقّبوه وقتلوا مَن طالوه من المصريين. ولكن عندما بلغ التتار الكمين, انقضّ عليهم من ثلاث جهات, وأغار المصريون على جنود التتار, وقاتلوهم قتالاً مستميتاً من الفجر حتى منتصف النهار, ثم تعذّرت المقاومة على جيش التتار ولحقت به الهزيمة آخر الأمر. وكان كتبغا يضرب يميناً وشمالاً غيرة وحمية, وظل يكافح بشدة إلى أن كبا به جواده, فأسره المصريون وحملوه مكبّلاً إلى قطز. فقال له

           أيها الرجل, ها أنت بعد أن سفكت كثيراً من الدماء البريئة, وقضيت على الأطفال والعظماء بالوعود الكاذبة, وهدمت البيوتات العريقة, قد وقعت أخيراً في الشرك, ثم حكم عليه بالموت

          وتابعت القوات المصرية تقدمها وانقضاضها على قوات التتار التي راحت تهرب أمامهم حتى التقوا مرة أخرى في بيسان حيث تمت فيها الهزيمة الأخيرة للتار على يد ركن الدين بيبرس

          إن انتصار مصر في معركتي ع ين جالوت وبيسان أنقذ سوريا أيضاً وقضى على الخرافة القائلة بأن جيوش التتار لا يهزمون

          وسرعان ما أخلى التتار دمشق وحلب وغيرهما من المدن السورية, ولاذوا فارين معتصمين بقنن الجبال وراح المصريون يطاردونهم, وأفنوا عدداً كبيراً منهم, وهرب من سلم منهم إلى الشرق, ودخل قطز دمشق فاستقبله الأهالي بالترحيب

          بيد أن قطز لم ينعم طويلاً بالنصر المجيد, فلم يكد يصل على رأس أمرائه إلى الصالحية عائداً مزهوّاً, حتى كان بيبرس قد دبّر مؤامرة لاغتياله, إذ تقدم بيبرس إلى سلطانه قطز ليقبّل يده لأنه منحه جارية حسناء من سبايا التتار, وكانت هذه علامة بيبرس لأعوانه, فانقضّوا على سلطانهم بالسيوف فقتلوه, وأقاموا ركن الدين بيبرس سلطاناً على مصر بدلاً من الملك المظفر سيف الدين قطز. وتستمر الحياة
المصدر: مجلة العربي، العدد: 512 يوليو 2001م


أحدث أقدم