تحت ساحة تدريب تدوسها خيول المستعمرين الإنجليز في إحدى ضواحي رانجون البورمية عاصمة ميانمار البوذية, يرقد رفات "بهادور شاه" آخر ملوك المسلمين في الهند, هذا الملك قاد الثورة الهندية ضد الإنجليز, فلما وقع في أيديهم نفوه إلى بورما, وظلوا ينزلون نقمتهم به في السجن حتى بعد أن مات جوعاً وعطشاً. ولم يكتفوا بذلك, بل راحوا يحاربون رفاته وعمدوا إلى إخفاء قبره ومنع أي أحد من زيارته حتى لا يتجمّع الناس حوله ويتذاكروا في تجمّعهم قصة الغدر والظلم الإنجليزي الذي لا ينساه التاريخ
كان سراج الدين أبوظفر بهادور شاه آخر مصباح في الأسرة المغولية الإسلامية التي حكمت الهند منذ استقر على حكمها السلطان بابر عام 1526 ثم وضع المستعمرون الإنجليز نهايتها عام 1857 بعد انتصارهم على الثورة الوطنية الكبرى التي قادها بهادور شاه الذي أسروه وهو مرفوع الرأس دون أن يستسلم وهو يقول: "يوم من حياة الأسد ولا مائة سنة من حياة ابن آوى

حركة التحرير
كان للمسلمين جهد كبير في حركة تحرير الهند وإجلاء الإنجليز, وكان ذلك طبيعياً إذ كانوا هم حكّام البلاد حين احتلها الاستعمار وبدأ الأخطبوط الإنجليزي ينفث سمومه ويبتلع الهند قطعة وراء قطعة وإمارة وراء إمارة, وكان أول مَن تنبّه لخطرهم منذ وضعوا أقدامهم عن طريق شركة الهند الشرقية البريطانية, هو السلطان المسلم تيبو
فقد أدرك أن الإنجليز سيلتهمون البلاد لقمة سائغة إذا لم تقم في وجههم قوة منظمة, فحارب الإنجليز بكل ما كان يملكه من قوة حربية. وحرص أمراء المقاطعات الهندوكية على الانضمام إليه حتى كاد كل ما بناه الإنجليز وأملوه في الهند ينهار, لولا أنهم نجحوا في ضم بعض أمراء المقاطعات في جنوب الهند إلى معسكرهم
ودارت الدائرة في النهاية على السلطان تيبو الذي سقط صريعاً وهو يحارب حتى آخر رمق مفضّلاً الموت على الأسر. وعندما سقط ميتاً, وقف قائد الغزو الإنجليزي على جثته وهو يقول: "اليوم.. الهند لنا
وحينما قامت الثورة الشعبية في الهند ضد الإنجليز عام 1857 كان المسلمون والهندوس يحاربون جنباً إلى جنب. وتوجه الثوار إلى القلعة الحمراء التي كانت مقر آخر ملك مغولي مسلم هو بهادور شاه, جعله الثائرون بكل طوائفهم قائداً للثورة ورمزاً للوطنية الموحّدة والكفاح الشعبي
وانطلقت الثورة ضد الإنجليز وللمسلمين السهم الأكبر في القيادة والتوجيه في جميع أنحاء الهند, وهو ما سمعته خلال رحلاتي إلى الهند من الأفضل أزاد وأبو الحسن الندوي وهما يحكيان عن سر العنت الذي شهده المسلمون في الهند في عهد الاستعمار والذي انحسرت آثاره بعد الاستقلال

شحم الخنزير ودهن البقر

كما يفعل الإنجليز دائماً لجأوا إلى الخديعة ومبدأ "فرّق تسد", فقربوا إليهم البنغال وبعض جنود دلهي وجونبور والبنجاب, وأقنعوهم بأن الثائرين يعتزمون تسييرهم إلى خارج الهند لحرب بورما وهو الأمر الذي يتنافى مع عقائدهم التي تعد كل مَن يغادر أرض وطنه خارجاً على طبقته ومنبوذاً
وعرف الثائرون كيف يثيرون ثائرة جند البنغال والبراهمة ردّاً على ذلك بأن الإنجليز يعالجون الأسلحة التي يسلمونها لهم بشحم الخنزير ودهن البقر المقدس ودسّهم هذه الدهون فيما يقدّمونه لهم من الطعام. والمعروف أن البقر محرّم على الهندوس ودم الخنزير محرّم على المسلمين, وولد هذا العمل تبرّماً عاماً بين الجنود من الطرفين, ودارت المعارك قوية عنيفة بين الثائرين بزعامة السلطان وأبنائه, وفي خطتهم أن يخرجوا المستعمرين من بلادهم, وبين الإنجليز الذين استطاعوا بعد هزائمهم المستمرة أن يضمّوا إلى صفوفهم حلفاء من السيخ والجوركا وقوات نظام حيدرأباد. وما لبث هؤلاء أن انقضوا على الثائرين, فقضوا على الثورة في قسوة وعنف بعد أن قصفوا دلهي بمدافعهم. ثم دفعوا بالسلطان إلى محاكمة صورية أدانوه فيها بتزعّمه وأبنائه للثائرين ومسئوليته عن مقتل تسعة وأربعين من البريطانيين في دلهي وثورته على الحكومة البريطانية بوصفه أحد رعاياها وإعلانه الحرب عليها
وقضى الإنجليز بنفيه وأفراد أسرته إلى رانجون وأعلنوا ضم شبه الجزيرة الهندية كلها إلى إمبراطوريتهم لتمارس الحكومة البريطانية حكمها بنفسها حكماً مباشراً, فراحوا يبطشون بالمسلمين الذين قادوا الثورة الوطنية العظمى, وقامت سوق القتل والنهب في دلهي على قدم وساق. الدماء تُسفك ,والرقاب تُضرب, والرصاص يطلق من غير تمييز حتى أصبحت المدينة مقفرة موحشة
كانت المجزرة للجميع, ولكن المسلمين كانوا بصفة خاصة هدف كل الإهانات والفتك الذريع, وكان شعار بعض رؤساء الإنجليز أنهم كانوا يعتبرون كل مسلم ثائراً وكانوا يسألون الرجل: أنت هندوكي أو مسلم؟ فإذا قال مسلم قتلوه بالرصاص

الملك في المنفى
وعودة إلى المنفى في رانجون حيث ظل الملك في محبسه المنعزل أربع سنوات يعاني سوء العذاب حتى مات على سرير حقير وليس حوله أحد إلا زوجته زينت محل وولداه. وأخفى الإنجليز خبر وفاته, ورأوا أن يدفنوه قريباً من مكانه مبالغة في الإخفاء, ولم يحضر أحد دفنه إلا طبيبه الخاص وأستاذ ابنه جمشير. فتوليا تكفينه والصلاة عليه وحفرا قبره ودفناه. وقد تولى الإنجليز حراسة قبره مدة طويلة. ولم يكن للقبر أي علامة أو بناء يدل عليه. ولذا كادت تضيع معالمه بعد أن نبتت الحشائش عليه, وما كانت هناك علامة باقية تشير إلى القبر إلا شجرة السدر بجواره. ولا يوجد الآن بجواره سوى لوحة مهشّمة تقول من شعره:"مَن يوقد الشموع على قبري? ومَن يأتي إليه بالورد? نعم لا ورد ولا شموع, حتى لا تأتي فراشة تحوم حولي, ولا يصدح بلبل غريد فوق قبري. بعد وفاتك يا ظفر.. مَن يأتي إلى قبرك ليقرأ لك الفاتحة
المصدر: مجلة العربي، العدد: 504 نوفمبر 2000م

أحدث أقدم