لم تكن الدولة الإسلامية منذ قيامها وعلى مختلف عصورها وفتوحاتها لنشر الإسلام دولة تدمير وتخريب. لقد فتح خلفاؤها وقادتها دولا مليئة بآثار ومعالم حضارتها القديمة فما امتدت أيديهم قط لتدمير هذه المعالم والآثار حفاظا على قيمها واحتراما لتراثها الإنساني, على أيديهم فتحت بلاد مصر والشام والعراق وفارس والهند وما وراء النهر وغيرها. ولكنهم لم يفعلوا كما فعل المغول والتتار من تدمير وتخريب للأمم المفتوحة. لقد فتح عمرو بن العاص بلاد الشام فما امتدت يده إلى الكنائس والأديرة بل جاء الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه ليتسلم مفاتيح بيت المقدس ورفض أن يصلي في دور عبادتها حتى لا يأتي بعده من يعتدي عليها ويقيم بداخلها الصلاة. وفتح عمرو بن العاص مصر عام 20 من الهجرة فما خرب ولا دمر رغم أنها كانت من قبله تعبدالأوثان وتعيش على آثار الفراعنة بل احترم آثارهم ومعابدهم وتماثيل فراعنتهم وتراثهم الإنساني كما احترم أيضا قبط مصر وخلصهم من ظلم الروم البيزنطيين وكفل لهم حرية الاعتقاد والعبادة وأداء صلواتهم في كنائسهم وأديرتهم. ودخلت جيوش المسلمين اراضي العراق وفارس بعد واقعة القادسية ودخلوا المدائن عام 16 هـ
وسلك القائد سعد بن أبي وقاص أراضي وسهول الإمبراطورية الفارسية حتى اتجهت الجيوش الإسلامية في عام 21 هـ, ففتحوا أصفهان ومن بعدها اصطخر ومدن خراسان, حيث قتل فيها كسرى يزدجرد عام 31 هـ وكان قد هرب إليها. واتجهت الجيوش الإسلامية نحو بلاد ما وراء النهر حتى وصلت إلى مكران قرب السند. وطوال هذه الفتوح لم يقم المسلمون بتدمير أو تخريب إيـوان كسـرى ولا معابد زرادشت وأبراج المجوس, ولم يفكر المسلمون خلال غزوهم لبلاد ما وراء النهر وخراسان أن يدمروا آثار شعوبها وتماثيلهم باعتبارها أوثانا ولكنهم اعتبروها تراثا إنسانيا للشعوب التي دخلت الإسلام. بل وما كان أجدرهم بعد ذلك وقد دخلوا شبه جزيرة الهند ـ وأغلب شعوبها تعبد تماثيل الهندوسية والبوذية ـ ثم أقاموا فيها أروع حضارة إسلامية في عهد المغول المسلمين وتركوا كل آثار من سبقوهم حتى من عبدة الأوثان. وهكذا احترم المسلمون حساسية الشعوب التي دخلت معهم في الإسلام حرصا على معالم التاريخ الإنساني والوفاق الوطني ولو كانت معالم معتقدات عفى عليها الزمن
طالبان وتماثيل بوذا
لهذا كان من الغريب أن تقوم طالبان حكام أفغانستان الإسلامية والتي أطلق عليها المسلمون اسم (خراسان) بتدمير تماثيل بوذا وكل الآثار التاريخية التي تعتبر تراثا إنسانيا
فقد كان دخول الإسلام إلى خراسان في عهد الخليفة عثمان بن عفان على يد الأحنف بن قيس التميمي عام 21 هجرية, ففتح هراة ومرو وبلخ حيث تعاهد معه أهلها. وتابع عبدالرحمن بن سمرة عامل الخليفة عثمان التقدم حتى بلغ غزنة ثم كابول التي فتحت في عهد معاوية بن أبي سفيان. وقد أنجبت أرض أفغانستان إمامين جليلين من أئمة الفقه هما أبو حنيفة النعمان الذي ينتسب إلى كابول عام 80 هـ ,وأحمد بن حنبل ابن مدينة مرو عام 164 هـ
أما عن بوذا الذي وجدت له تماثيل في خراسان فهو نفسه ـ كما تقول كتب المؤرخين ـ لم يقل عن نفسه أبدا أنه إله. ولا قال قط أنه نبي مرسل من السماء. وما طلب على الإطلاق أن يعبدوتقام له التماثيل. فقد كان حكيما وأول من هاجم أصنام الآلهة التي يعبدها الهندوس وقال عنها: (إن كل القرابين التي نقدمها للآلهة العديدة في الهند وكل صلواتنا لها حمق وهراء. فلا سلطان لكل هذه الأصنام على تغيير شيء في العالم. فلماذا نصلي لها ونعبدها)? والحق إن كتب الفيداس التي تأمر الناس بالصلاة وتقديم القرابين وعبادة الأصنام ليست مقدسة لأن الكتب المقدسة لا تعلم الناس ما ليس حقا وما هو شر. فالقانون الأول للحياة هو أنه من الخير يجب أن يأتي الخير ومن الشر لابد أن يأتي الشر
وقد كانت هذه أول مرة يجرؤ فيها شخص في الهند على أن يقول إن كتب الفيداس الهندوكية ليست مقدسة. وأن الآلهة التي يصنعونها بأيديهم ليست سوى أوثان لا تؤدي أبدا إلى الحياة الصالحة. وكان كل ذلك هو ما قاله (حكيم الساكيا) بعد أن بلغ مرحلة الاستنارة خلال بحثه عن الحقيقة حتى سماه الناس (البوذا) وتعني (المستنير). أما التماثيل التي أقيمت له بعد مئات السنين من وفاته وهي تعبر عنه عندما كان في سن الثمانين عام 470 ق.م فقد كان ذلك ـ كما يحدث عادة في مختلف العقائد ـ بفعل الكهان والرهبان والاتباع الذين جاءوا بعد عصره بعشرات ومئات السنين ثم انقلبوا على تعاليمه ونسوا أن أفكار بوذا كانت خلقية خالصة, وأن كل ما كان يعنيه إنما هو سلوك الناس والعمل على بلوغ الحقيقة والسمو بالنفس. وهكذا راحوا يؤلهون بوذا ـ بالرغم من معارضته هو نفسه لذلك أثناء حياته ـ وبدأوا ينشئون عنه القصص في كتبهم لتتحدث عن بوذا المقدس. وبعد أن كان بوذا يعظ ضد الأصنام والأوثان فقد أقاموا له التماثيل في كل معبد وجعلوا منه هو نفسه إلها معبودا وهو ما لم يدعه بوذا لنفسه على الإطلاق
تماثيل لا تعبد
وفي الحق أن تماثيل البوذا في البلاد الآسيوية لا تعبدالآن. فهي ليست مثل تماثيل الهندوكية التي تعد عندهم آلهة. ولكن تماثيله تعد تقديرا لحكمته وتذكيرا بتعاليمه. وحتى في الهند نفسها فقد انتهت منها عقائد البوذية وانتقلت إلى بلاد ما وراء الهيمالايا شمالا في نيبال والتبت والصين وتايلاند واليابان وجنوبا إلى ميانمارا. وحتى في تركمانستان الشرقية وسيرلانكا. وإن كانت في كل هذه البلدان قد اتخذت ألوانا مختلفة من المذاهب التي انقسمت إليها البوذية. فالبعض استمسك بمذهب صاحب العقيدة في بساطته وصفاته باعتباره معلما حكيما, بينما آخرون تمسكوا بقدسية الآثار الباقية من السلف واستخدموا الشموع والبخور والثياب الكهنوتية وتدشين القديسين أمام تماثيل بوذا تكريما لذكراه وتعاليمه. وبرغم اختلافاتهم فإنهم كلهم يؤمنون (بالطريق ذي الشعب الثماني) التي حددها بوذا في حكمه ليتخذها الناس من أجل الحياة الصالحة وهي
"لا فرق بين شخص وآخر" إلا بالجهد الصالح الذي يبذله لبلوغ السمو النفسي
" الإيمان بالحق" وهو الإيمان بأن الحقيقة هي الهادي للإنسان
"القرار الحق" بأن يكون الإنسان هادئا دائما لا يفعل أذى بأي مخلوق
"الكلام الحق" بالبعد عن الكذب والنميمة وعدم استخدام اللفظ الخشن
"السلوك الحق" بعدم السرقة والقتل وفعل شيء يأسف له المرء فيما بعد
"العمل الحق" بالبعد عن العمل السييء مثل التزييف وتناول السلع المسروقة
"الجهد الحق" بالسعي دائما إلى كل ما هو خير والابتعاد عما هو شر
"التأمل الحق" بالهدوء دائما وعدم الاستسلام للفرح أو الحزن وبلوغ مرحلة السلام الكامل
ذلك هو الطريق الوسط الذي طلب بوذا من الرهبان أن يتبعوه فقالوا: (لاشك أن هذه هي الحكمة. ومن المؤكد أن سيدها ناجوتاما) أمير الساكيا قد أصبح (المستنير) أو (البوذا) لأنه حرك عجلة القانون الحق للحياة. ذلك القانون الذي يعلم البشرية أن العالم تحكمه عدالة السماء
مجلة العربي، العدد: 511 يونيو 2001م