غير بعيد من مشهد وضريح السيدة نفيسة ـ حفيدة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا ـ يستطيع المرء بالكاد أن يلتقي بما بقى من مقبرة وضريح أول ملكة حكمت المسلمين وأذلت الصليبيين وأسرت ملك فرنسا لويس التاسع في واقعة المنصورة وسجنته في بيت ابن لقمان.. إنه قبر الملكة شجرة الدر.. التي تولت سلطنة مصر في آخر عصر سلاطين بني أيوب باتفاق أمراء المماليك الصالحية بعد مقتل طوران شاه في السابع والعشرين من المحرم سنة 648 هجرية, وخطب لها على منابر المساجد بمصر والقاهرة, حتى خلعت نفسها بعد ثلاثة شهور حين بعث الخليفة المستعصم العباسي في بغداد رسالة تقريع وتأنيب إلى زعماء المماليك لأنهم ولوا عليهم امرأة وقال لهم: (إذا كان عنصر الرجال قد ندر عندكم فأبلغونا نرسل إليكم.. رجلا

         وإذا كان نزول السلطانة شجرة الدر عن سلطنتها هو إحدى مآسيها إلا أن المأساة الأولى التي سبقتها كانت خلال المعركة مع الصليبيين. إذ فوجئت بزوجها الملك الصالح الذي يقود المعركة يسقط في خيمته مريضا بالفالج ومرض القلب ليموت على فراشه. وبعد تفكير عميق واستشارة بعض المقربين إليها قررت إخفاء أمر وفاة السلطان حتى لا تكون الطامة وينهار الجند والقوات فتفقد بذلك الزوج والعرش والمعركة جميعا. وتولت شجرة الدر زمام المعركة وراحت تصدر الأوامر والمراسيم بخاتم زوجها الميت حتى يتحقق النصر. وأرسلت تستدعي طوران شاه ابن الملك الصالح أيوب من الشام ليتولى السلطنة. إلا أنه حين جاء شهدت معه مأساة أخرى إذ غدر بها وبكل من ساعدوا على النصر وحبسها ولم يدع أحدا من الأمراء القادة المنتصرين إلا ناله بمساءة وانتزع السلطات من أيدي الأكفاء ليضعها في أيدي الأراذل من مماليكه. مما دفع بالأمراء إلى قتله حرقا وغرقا. وبخاصة عندما بعث إلى شجرة الدر يطالبها بجواهر وأموال أبيه

الغيرة القاتلة

  بالرغم من أن أمراء المماليك قد أجمعوا على اختيار شجر ة الدر لتتولى زمام الأمور سلطانة على مصر. فإن المآسي لم تتوقف وبخاصة عندما رفض الخليفة العباسي المستعصم هذا الاختيار. فقد بعث إلى أمراء المماليك برسالة يقول فيها (ويل لقوم ولوا أمرهم امرأة.. فإذا كنتم قد عدمتم الرجال فأخبروني أرسل لكم من عندي رجلا
وللخروج من المأزق وتنازل شجرة الدر عن السلطنة ليتولاها أحد الرجال. اختارت هي بنفسها الرجل الذي تتزوجه ليكون سلطانا. وكانت مأساة أخرى حين اختارت الأمير عز الدين أيبك.. ليس لأنه أقوى الأمراء ولكن لأنه رجل يؤثر السلامة فلا تخشى منه الاستئثار بالسلطة وهي التي قررت أن تجمع بين يديها كل السلطات. ويجلس أيبك على عرش مصر باسم الملك المعز. وتنتهي بذلك رسميا سلطنة شجرة الدر وإن ظلت تستمر صاحبة الكلمة والنفوذ. ويبدأ صراع داخلي في قصر القلعة وخارجه. فالملك المعز لا يطيق أن تظل زوجته شجرة الدر هي الروح المسيطرة ويعاني من طغيانها المرهق على نفسه ولا يرى سبيلا للخلاص منه

والمرأة في أعماق شجرة الدر تكون قد دفعتها إلى إرغام المعز على أن يطلق زوجته الأولى أم ولده علي. فهي تضطرم بنار الغيره المحرقة وتمنعه حتى من زيارتهما
          وتستمر المنازعات العاصفة بين شجرة الدر وأيبك لأقل كلمة أو بادرة حتى يغدو قصر القلعة بينهما جحيما لا يطاق. ويفكر كل منهما في أن يتخلص من الآخر خاصة وهي ممسكة بكل أمور السلطة بينما التوتر العاطفي العاصف يزداد كل يوم.. فهي لا تسمح له بأن يكون صاحب السلطة الحقيقي بينما هو يريد أن يكون أمام الناس صاحب كل الأمر

قمة المأساة

يزداد ضيق أيبك بشجرة الدر وتعاوده أشواقه إلى زوجته (أم علي) التي لم يكن قد طلقها بالفعل. وتكتشف شجرة الدر الأمر ويعود الانفجار لتكون مأساة جديدة حين يقرر أيبك الزواج من إحدى بنات صاحب الموصل ليكون حليفا له. ويصل الخبر إلى شجرة الدر وتشت د بها غيرة مجنونة عندما يبلغها أن المعز قد تمادى في الأمر وبدأ ينفذ غرضه, وأنه يعتزم إنزالها من قصر القلعة لتهيئته لعهد جديد مع زوجة جديدة
جرحت كبرياء المرأة في شجرة الدر بشدة وصممت على الانتقام بعدأن جرح منها كبرياء الملكة وغيرة الأنثى. وإذن فليكن انتقامها منه إذلالا لكبريائه وتدميرا لرجولته في وقت واحد. فتخادعه وتتظاهر بأنها لم تجد أمامها إلا المصالحة والاستسلام. وتعبيرا عن الصلح والرضا تدعو زوجها للحضور وإلى تناسي ما كان
 وينخدع المعز فيتصور أنها قد خففت من غلوائها فيأتي إليها. وحين يدخل الحمام تنزل به انتقامها بما يذل كبرياءه ورجولته. وعلى يد مماليكها وطواشيها يلقى المعز مصرعه بضرب القباقيب الخشبية حتى الموت

          يتولى السلطنة بعد أيبك ابنه علي المنصور.. ابن ضرة شجرة ا لدر التي طالما أذلتها وأبعدت عنها زوجها. وتصعد أم علي إلى قصر القلعة وتأمر بالقبض على غريمتها

 وتحتمي شجرة الدر صاعدة إلى البرج الأحمر بالقلعة والذي يشرف الآن على باب المقطم. ولم يكن الخوف من الموت هو ما يشغل بال شجرة الدر لأن شيئا آخر كان يستأثر بتفكيرها. إن جواهرها وحليها ستصبح حين تموت ملكا لضرتها أم علي. وهذا أمر لا يمكن أن يكون. وتنهض إلى صندوق جواهرها. وفي هاون رخامي تسحق كل شيء وهي تضحك في انتصار.. إنها لن تستسلم لضرتها إلا وهي منتصرة عليها وترسل شجرة الدر مع وصيفتها بمسحوق المجوهرات إلى أم علي

وجن جنون ضرتها أم علي فكان لابد أن تحدث قمة المأساة.. إذ انطلقت جواريها إلى البرج الأحمر دون أن يستطيع أحد من الحراس منعهن. وانهالت الجواري على شجرة الدر ضربا حتى قتلنها بنفس السلاح الذي قتلت به زوجها الملك المعز.. بالقباقيب.. وحين قضى الأمر ألقت الجواري بجثة الملكة عارية من نافذة الب رج الأحمر لتنهشها الكلاب بعد أن كانت كبيرة الجواري قد ملأت الهاون الذي سحقت فيه شجرة الدر جواهرها بدمائها. وأمرت أم علي أن تصنع حلوى الانتصار مغموسة بالدم الأحمر.. وكانت هذه الحلوى هي التي تقدم في الولائم في مصر باسم (أم علي). وإن كانت تغمس الآن بعصير الفراولة بدلا من دماء شجرة الدر
المصدر: مجلة العربي، العدد: 516 نوفمبر 2001م

أحدث أقدم