لا شك في أن ما شهده العام المنصرم 2011 من أحداث وتطورات كبرى، سيلقي بظلال كثيفة على الإرهاب العالمي وإستراتيجياته وأجنداته العملياتية، وهو ما دفع بالعديد من خبراء التحليل الاستراتيجي إلى استقراء الواقع والتشابك مع معطياته في محاولة لاستجلاء الملامح المستقبلية للإرهاب
في 20 يناير 2012 The National Interest ومن ذلك الورقة التي نشرتها مجلة
 (تهديدات الإرهاب الجديد عام 2012) New Terror Threats in 2012 تحت عنوان
الخبير بمعهد الدفاع والدراسات الإستراتيجية  Rohan Gunaratna للبروفيسور 
ورئيس المركز الدولي للعنف السياسي وأبحاث الإرهاب التابع لمدرسة راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة
تضاعف المخاطر
يشير "جوناراتنا" في مستهل ورقته البحثية إلى تضاعف المخاطر التي يواجهها الأمن العالمي في الآونه الأخيرة، جراء فشل العديد من الأنظمة السياسية في السيطرة على الأمن الداخلي في بلدانها ووجود عدد من الأقاليم التي لا تخضع لأي صورة من صور الإشراف حكومي، فضلا عن الصراعات الجيوسياسية التي تنعكس سلبا على الاستقرار والأمن العالميين
وتمثل منطقة القبائل في باكستان، والتي تخضع لنظام الحكم الفيدرالي، المركز الرئيسي والملاذ الآمن للإرهاب العالمي والذي يضطلع بعبء تزويد المناطق الساخنة من العالم في العراق وأفغانستان والصومال واليمن (ونيجيريا في بعض الروايات) بما يلزمها من عناصر إرهابية أجنبية تساعد على خلق واستنساخ جماعات راديكالية محلية
ويرى "جوناراتنا"  أنه برغم من تشديد إجراءات الأمن الحدودي، إلا أن هذه الجماعات لم تعدم الوسيلة للالتفاف عليها، بفضل ما تتمتع به من مهارات فذة في توظيف الإنترنت للتواصل والوصول إلى عناصرها في بلاد المهجر
ويؤكد "جوناراتنا"  أن هذه الجماعات تقوم بالإفادة من تكنولوجيا الاتصالات عن طريق الإنترنت على محورين، الأول هو المحور التنظيري وذلك بالترويج لأيديولوجياتها المتطرفة في البيئات التي تساعد أوضاعها الأمنية والاجتماعية المرتبكة على تقبل، بل والاندفاع نحو هذه الأيديولوجيات؛ أما الثاني فيتخطى مراحل التنظير إلى مستويات التطبيق العملي والتدريب الفعلي عبر شبكة الإنترنت، مما أسهم بشكل كبير في تعملق خلايا الإرهاب المحلي، لا سيما في الغرب، حتى استحالت بدورها شبكات أخطبوطية قادرة على مضاعفة نشاطاتها في أوروبا والولايات المتحدة وصارت تضاهي في منتجها العملياتي (وربما تفوق من حيث توالي هذا المنتج على المسرح الغربي) العمليات القادمة من النصف الجنوبي من العالم
الإرهاب الدولي

ومع العجز الواضح الذي تعانيه قوات الأمن العراقية في دعم الحالة الأمنية في البلاد، تتوقع الدراسة تضاعف معدلات العمليات الإرهابية التي تشهدها بغداد؛ والحقيقة أن النشاط العملياتي للعناصر العراقية لا ينحصر في الداخل العراقي أو حتى الشرق أوسطي فحسب، بل يتمدد عالميا بحثا عن مزيد من الأهداف
وفي السياق الأفغاني، فقد أكسب الانسحاب الأمريكي من العراق "الجماعات الإرهابية بأفغانستان" كما ترى الورقة، قدرا غير قليل من الجرأة والشجاعة، ما قد يدفعها لتمديد مسرحها العملياتي وإدراج مقار الحكم في كابول ضمن مستهدفاتها، بل وإلى تطلع طالبان للحصول على سهم في كعكة السلطة الأفغانية
ويرى "جوناراتنا" أن إعلان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أسهم في إرباك حسابات من أسمتهم الورقة بـ"شركاء الولايات المتحدة في أفغانستان"، وتدعيم أوضاع العناصر القاعدية ومتمردي طالبان، الأمر الذي نكص بجهود المجتمع الدولي للتفاوض مع طالبان خطوات واسعة إلى الوراء وفتح الأبواب أمام باكستان والهند وإيران والصين للتدخل وكسب النفوذ، بل والسيطرة على كثير من مجريات الأمور على الساحة الأفغانية
وتشير الورقة إلى أن هذه التطورات السياسة مهدت الطريق أمام إيران للمضي قدما في تطوير إستراتيجية مواجهة غير مباشرة ضد القوى الغربية عن طريق دعم الجماعات الإرهابية بجناحيها السني والشيعي وذلك لتحقيق الأهداف الإستراتيجية الإيرانية، دونما حاجة إلى تجشم أعباء وتكاليف المواجهة المباشرة
ويؤكد "جوناراتنا"  أن الأزمة الاقتصادية دفعت بالولايات المتحدة، التي تمثل العصب الرئيس في مكافحة الإرهاب العالمي، إلى التخفيض من الميزانيات المخصصة لهذا الغرض؛ ومع استعدادات قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية للانسحاب من أفغانستان بحلول عام 2014، فإن الموقف على الساحتين الأفغانية والباكستانية يزداد تأزما بشكل ملحوظ، مما يجعل عملية إعادة الاستقرار إلى هذا المحور، بما في ذلك منطقة آسيا الوسطى، مرهونة بقدرة الولايات المتحدة على خلخلة البنية التحتية لتنظيم القاعدة وحركة طالبان على الحدود الأفغانية الباكستانية من ناحية، وقدرة المجتمع الدولي على تقديم الدعم اللازم للقوات العراقية والأفغانية على المدى الطويل لمواجهة تحديات الإرهاب والتطرف المتجذرة في هاتين البيئتين من الناحية الأخرى
تراجع الدور الحكومي المؤسساتي

يشير "جوناراتنا" إلى منطقة الساحل الإفريقي والتي شهدت مؤخرا تدفق كميات هائلة من السلاح إلى جانب أعداد كبيرة من المقاتلين من ليبيا، مما أدى إلى خلق بيئة صالحة وقاعدة استراتيجية للجماعات الإرهابية في المنطقة، الأمر الذي يهدد بشكل مباشر الأوضاع الأمنية في بلدان المغرب العربي والساحل الإفريقي ومنطقة غرب إفريقيا، ما لم يتم التعاطي بصورة إيجابية وسريعة مع إشكالية تدفق السلاح والمقاتلين الليبيين
والحقيقة أن الدراسة تلفت النظر إلى ضرورة تكريس مزيد من الدعم والمساعدات الدولية للدول التي وقعت تحت تأثير هزات الربيع العربي بوجه عام والتي تعاني اليوم فراغا موحشا في السلطة بعد سقوط أنظمتها العتيدة، ما جعلها نهبا للتيارات المتطرفة جراء فساد الحياة الحزبية وخلو الساحة السياسية في هذه البلدان من تيارات سياسة مستنيرة
وفي السياق نفسه، تتحول الدراسة إلى الأوضاع الأمنية المتردية على الساحة النيجيرية حيث تسعى جماعة "بوكو حرام" بقوة إلى بناء دولتها الإسلامية عبر آليات إرهابية وخلق حالة من العنف والفوضى؛ كتلك الهجمات الي شنها مقاتلو "بوكو حرام" ضد عدد من الكنائس إبان الاحتفال بأعياد الميلاد 2011، فضلا عن تدشين عدد من العمليات الإرهابية التي أودت بحياة ما يزيد على خمسمائة من المدنيين خلال نفس العام
وتعزو الدراسة تردي الحالة الأمنية وانتشار العنف والإرهاب في إفريقيا بوجه عام إلى ضعف القيادة وتقلص الدور الحكومي وتراجع معدلات التنمية الاقتصادية بشكل كبير، مما يجعل أجزاء غير قليلة من القارة بيئة صالحة للجماعات الإرهابية
ويؤكد "جوناراتنا" على حاجة الحكومات في الدول العربية والإفريقية بوجه عام إلى بناء قدرات غير عسكرية وتبني سياسات غير أمنية تؤهلها للتعاطي مع ما وصفها بجماعات الضغط الراديكالية التي أحرزت تفوقا ملحوظا في اختراق الأحزاب السياسية والمنظمات الدينية والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام الجماهيرية عبر نخبة من القيادات تتسم بالقدرات العلمية الفائقة، ما مكنها من بسط نفوذها على هذه الكيانات وساعدها على الترويج لأيديولوجياتها وأفكارها، وتجذير نفسها في الدوائر الشعبية، وكسب قواعد جماهيرية ذات خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة
ويرى "جوناراتنا"  أنه إذا كان جُل المنًظرين الأيديولوجيين في هذه الجماعات يعانون من فقر في ثقافتهم الدينية، إلا أن المؤسسات الحكومية الهزلية والهزيلة قد أفسحت لهم المجال للتعاطي مع الجماهير ولبناء قواعد شعبية وجماهيرية انتخابية ساعدتهم على المضي قدما نحو تحقيق أهدافهم السياسية؛ وتمثل الدراسة على ذلك بوضع السلفية الجهادية حيث لا يتجاوز معتنقوها نسبة 1% من المسلمين حول العالم، إلا أنها تتمتع برواج أيديولوجي كبير ينطلق من الشرق الأوسط إلى أنحاء إفريقيا وآسيا
تقليص حرية التعبير

وتؤكد الدراسة أنه ثمة سبب آخر هام في نجاح الجماعات الإرهابية في الانتشار والتجذر حول العالم، يكمن في منظومة القوانين الفضفاضة والتسامح الدولي اللامحدود الذي يصل، كما يؤكد "جوناراتنا"، إلى حدود الإهمال في التعاطي مع قضية توظيف الجماعات الإرهابية للإنترنت
فجميع تلك الجماعات تتمتع بمساحة هائلة من التواجد الفعال على الشبكة العنكبوتية، ولكن الصادم في الأمر أن نسبة تتجاوز الـ 90% من هذه الجماعات يعتمد على شركات خدمات الإنترنت الأمريكية. وتحقق هذه الجماعات معدلات وجود واستخدام لشبكة الإنترنت يشق على الجهات الحكومية الرسمية مجاراتها سواء على مستوى نشر المعلومات الكاذبة والمضللة أو على مستوى رصد وتتبع النشاطات العملياتية
وهنا تبرز معضلة الحريات في المنظومة العلمانية، حيث يؤكد "جوناراتنا" على ضرورة فرض رقابة صارمة وقوانين غير متسامحة وتجاوز شعارات حرية التعبير وحرية النشر في التعاطي مع قضية المواقع التي تُستخدم للترويج للأيديولوجيات الراديكالية تحت مظلة الديمقراطية وحريات التعبير والنشر، حيث يبرز الفضاء الإلكتروني كأحد أهم المنابر الدعائية التي تعتمدها الجماعات الإرهابية لتجنيد عناصر جديدة والحصول على التمويلات اللازمة وتنسيق نشاطها العملياتي
وتخلص الدراسة إلى أن الإرهاب في العام 2012- برغم اختلاف صورته النمطية عن السنوات العشر السابقة التي أعقبت الهجمات القاعدية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 على نيويورك وواشنطن جراء الوهن والخلخلة التي أصابت التنظيم مؤخرا- سوف يظل مكمن التهديد الحقيقي الذي يمكن أن يطال أمن واستقرار الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين وأصدقائها حول العالم ويستنزف قدراتها الاقتصادية وطاقاتها السياسية
وبالرغم من إمكانية التعاطي مع الخطر الذي يمثله هذا التهديد، إلا أن الدراسة تتوقع بشكل حاسم أن كافة القوى الكبرى، بما فيها الصين وروسيا والهند، سوف تظل ترزح تحت وطأة هذا الخطر على مدى المستقبل المنظور
أما الحل الأوحد للمعضلة الإرهابية من وجهة نظر"جوناراتنا"، فيبدأ من اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته نحو حل الصراعات الإقليمية والحيلولة دون تسييس وأدلجة القطاع الأكبر من الجماهير؛ وحتى ذلك الحين، وحتى إذا كان بالإمكان الحد من القدرات القاعدية ومحاصرة أنشطتها، إلا أن محاصرة الظاهرة الإرهابية العابرة للحدود والقوميات تبقى حلا رومانسيا يحلق بعيدا عن أرض الواقع
الكاتب: أحمد بركات،إسلام أون لاين



أحدث أقدم